الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وأما حجة النفاة التى ذكرها فإنه قال: فإن قيل: لو كان في لغة العرب لفظ مجازى فإما أن يقيد معناه بقرينة، أولا يقيد بقرينة؛ فإن كان الأول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك فكان مع القرينة حقيقة في ذلك المعنى. وإن كان الثاني فهو أيضا حقيقة، إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلا بالإفادة من غير قرينة. ثم قال: قلنا: جواب الأول أن المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة إلا بقرينة، ولا معنى للمجاز إلا هذا، والنزاع في ذلك لفظى، كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية؟ فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع. فيقال: هو قد سلم أن النزاع لفظى، فيقال: إذا كان النزاع لفظيا، وهذا التفريق إصطلاح حادث لم يتكلم به العرب؛ ولا أمة من الأمم، ولا الصحابة، والتابعون، ولا السلف كان المتكلم بالألفاظ الموجودة التى تكلموا بها ونزل بها القرآن أولى من المتكلم باصطلاح حادث لو لم يكن فيه مفسدة، وإذا كان فيه مفاسد كان ينبغى تركه لو كان الفرق معقولا، فكيف إذا كان الفرق غير مقعول فيه مفاسد شرعية وهو إحداث في اللغة؟! كان باطلا عقلا وشرعا ولغة. أما العقل فإنه لا يتميز فيه هذا عن هذا، وأما الشرع فإن فيه مفاسد يوجب الشرع إزالتها، وأما اللغة فلأن تغيير الأوضاع اللغوية غير مصلحة راجحة، بل مع وجود المفسدة. فإن قيل: وما المفاسد؟ قيل: من المفاسد أن لفظ المجاز المقابل للحقيقة سواء جعل من عوارض الألفاظ أو من عوارض الاستعمال يفهم ويوهم نقص درجة المجاز عن درجة الحقيقة، لاسيما ومن علامات المجاز صحة اطلاق نفيه، فإذا قال القائل: إن الله تعالى ليس برحيم ولا برحمن؛ لا حقيقة بل مجاز؛إلى غير ذلك مما يطلقونه على كثير من أسمائه وصفاته وقال: [ لا إله إلا الله] مجاز لا حقيقة، كما ذكر هذا الآمدي من أن العموم المخصوص مجاز، وقال من جهة منازعه: فإن قيل: لو قال:[لا إله] تامة مطلقة يكون كفرا ولو اقترن به الاستثناء، وهو قوله: [إلا الله] كان ايمانا، وكذلك لو قال لزوجته: أنت طالق كانت مطلقة بتنجيز الطلاق، ولو اقترن به الشرط وهو قوله: إن دخلت الدار كان تعليقا، مع أن الاستثناء والشرط له معنى، ولولا الدلالة والوضع لما كان كذلك . قلنا: لا نسلم التغيير في الوضع، بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه من جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة، فقد تكلم في [لا إله إلا الله] إذا كانت من مورد النزاع، فإنه يزعم أن كل عام خص ولو بالاستثناء كان مجازا؛ فيكون [لا إله إلا الله] عنده مجازا ومعلوم أن هذا الكلام من أعظم المنكرات في الشرع، وقائله إلى أن يستتاب ـ فإن تاب وإلا قتل ـ أقرب منه الى أن يجعل من علماء المسلمين، ثم هذا القائل مفتر على اللغة والشرع والعقل ؛ فإن العرب لم تتكلم بلفظ [لا إله] مجردا، ولا كانوا نافين للصانع حتى يقولوا: [لا إله]، بل كانوا يجعلون مع الله إلهة أخرى، قال تعالى: والقرآن كله يثبت توحيد الألهية ويعيب عليهم الشرك، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه أول مادعى الخلق الى شهادة أن لا إله إلا الله، وقال: (أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، والمشركون لم يكونوا ينازعونه في إلاثبات بل في النفي، فكان الرسول والمشركون متفقين على اثبات إلهية الله ،وكان الرسول ينفي إلهية ما سوى الله وهم يثبتون، فلم يتكلم أحد لا من المسلمين ولا من المشركين بهذه الكلمة إلا لاثبات إلهية الله ولنفي إلهية ماسواه، والمشركون كانوا يثبتون إلهية ما سواه مع إلهيته، أما إلإلهة مطلقا بهذا المعنى فلم يكونوا مما يعتقدونه حتي يعبروا عنه، فكيف يقال: هذا المعنى هو الذي وضعوا له هذا اللفظ في أصل لغتهم؟. وأما قول القائل: لانسلم تغيير الدلالة بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه من جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة. فيقال له: هذه مغلطة؛ فإنه في حال القيد لم يكن مطلقا، وهو لا يقتضي النفي العام إذا كان مطلقا غير مقيد، فأما مع القيد فقوله:[لا إله إلا الله] اللفظ مطلقا، فكيف يقال: إنه صرف عما كان يقتضيه لو كان مطلقا؟ فلو كان مطلقا لكان يقتضي النفي العام، فبالتقييد زالا الإطلاق المقتضى لذلك، وهذا معنى تغيير الدلالة فإنه لو كان له دلالة عند الإطلاق بطلت وصارت له دلالة أخرى عند التقييد والاستثناء فخرج من اللفظ ما لولاه لدخل في اللفظ عند الجمهور القائلين بالعموم، وعند أهل الوقف، فخرج من اللفظ ما لولاه لصلح أن يدخل، فعلى القولين لا يخرج من اللفظ ما دخل، بل ما لولا الاستثناء لكان الاستثناء يمنع ذلك الاقتضاء، فلم يبق اللفظ مع الاستثناء مقتضيا لنفي المستثني ألبتة، كما أنه لم يبق مقتضيا بقوله صرفه عن مقتضاه من جهة إطلاقه ليس بسديد؛ فإنه لو كان مقتضيا مطلقا لم يكن هناك استثناء ولا يصرف شيء، وإذا لم يكن مطلقا بل مقيدا بالاستثناء فليس هناك إطلاق يكون له اقتضاء ، ولا هناك لفظ يقتضى نفي المستثنى، ولا هناك مستثنى منفي. وأيضا من مفاسد هذا جعل عامة القرآن مجازا. كما صنف بعضهم مجازات القراءات. وكما يكثرون من تسمية آيات القرآن مجازا، وذلك يفهم ويوهم المعاني الفاسدة، هذا إذا كان ما ذكروه من المعاني صحيحا فكيف وأكثر هؤلاء يجعلون ما ليس بمجاز مجازا؟ وينفون ما أثبته الله من المعاني الثابتة، ويلحدون في أسماء الله وآياته، كما وجد ذلك للمتوسعين في المجاز من الملاحدة اهل البدع. وأما قوله: كيف والمجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنويه؟ فيقال: أولا ليس الأمر كذلك عندكم، بل كثيرا ما تجعلون الحقيقة والمجاز اسما للمعنى، فتقولون: حقيقة هذا اللفظ كذا ومجازه كذا؛ وتقولون حقيقة هذا اللفظ، فتجعلونه من عوارض الألفاظ تارة، ومن عوارض المعنى أخرى، وقد تجعلونه من عوارض الاستعمال، فيقال: استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى حقيقة وفي هذا مجاز. ثم يقال: لا ضابط لهؤلاء فإن منهم من يجعل استعمال اللفظ في بعض معناه حقيقة. ومنهم من يجعله مجازا، ومنهم من يجعله حقيقة ومجازا جميعا، كما قد ذكر ذلك في مسألة العموم والأمر إذا أريد به الندب هو مما يبين تناقض هذا الأصل. ثم يقال: هب أن هذا من عوارض الألفاظ، فإنما هو من عوارض اللفظ المستعمل الذي أريد به معناه. فقولك: هو من صفات الألفاظ دون القرائن المعنويه فلا تكون الحقيقة صفه للمجموع؛ باطل من وجوه : أحدهما: أن اللفظ لم يدل قط إلا بقرائن معنوية، وهو كون المتكلم عاقلا له عادة باستعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى؛ وهو يتكلم بعادته والمستمع يعلم ذلك، وهذه كلها قرائن معنويه تعلم بالعقل، ولا يدل اللفظ إلا معها فدعوى المدعى أن اللفظ يدل مع تجرده عن جميع القرائن العقليه: غلط الثاني: أن يقال: أنت لم تفرق بين القرائن المعنوية واللفظية؛ فإن العامل المخصوص بالاستثناء والشرط والصفه والبدل إنما اقترن به قرائن لفظية؛ وقد جعلته مجازا، وأيضا فقول النبى صلى الله عليه وسلم: (أن خالدا سيف سله الله على المشركين)؛ وقول أبي بكر رضي الله عنه: لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله. وأمثال ذلك وما مثلت به من قوله: ظهر الطريق ومتنه. هي قرائن لفظية بها عرف المعنى، وهو عندك مجاز الثالث: أن نقول اذكر لنا ضابطا من القرائن التى بها يكون حقيقة والقرائن التي يكون بها مجازا! فإن هذا ممتنع لا سبيل لك إليه لبطلان الفرق في نفس الأمر. الرابع: أن يقال: هب أنه مفتقر الى قرينه معنوية! فلو قيل لك: الحقيقة اسم لنفس اللفظ لكان يشترط أن يقترن به ما يبين معناه سواء كانت القرينه لفظيه أو معنوية ولفظ الحقيقة في الموضعين اسم اللفظ لما اقترن به لم يكن ما يدفع ذلك. الخامس: أنه لو قيل لك: أنا أجعل لك لفظ الحقيقة اسما للفظ وما اقترن مطلقا، لم يكن لك جواب عن هذا إلا أن يقول: أنا اجعله اسما للفظ والقرينة اللفظية دون المعنوية، وهذا المعنى لو كان صحيحا لم يكن معك إلا مجرد تحكم قابلت به تحكما، وليس تحكمك أولى. فكيف تجعل ذلك حجه معنوية على بطلان قول خصمك؟ وتحقيق ذلك [بالوجه السادس]: وهو أن يقال: قولك: كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع؟ ليس فيه إلا مجرد حكاية اللفظ الذي ابتدعته، فإذا قال لك المنازع: بل الحقيقة اسم لمجموع الدال من اللفظ والقرينة المعنوية كان قد قابل اصطلاحك باصلاحه الذي هو أحسن من اصطلاحك حيث سمى جميع البيان الذي علمة الله عباده حقيقة، وأنت جعلت كثيرا منه أو أكثره مجازا. فإن قلت: فهذا النزاع لفظي، قيل لك: فهذا جوابك الأول، وهو قولك :النزاع في ذلك لفظي. قوله: لى بعد هذا جوابا آخر، وهو قولك: كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية؟ فلا تكون الحقيقة صفه للمجموع يقتضي أنك ذكرت جوابا ثأنيا غير الأول، وليس فيه إلا إعادة معنى ذلك الاصطلاح، هو أنا اصطلحنا على أن يسمى بالحقيقة اللفظ دون القرائن المعنوية فتبين أنه ليس معك إلا اعترافك بأن النزاع لفظي، فلو كان الاصطلاح مستقيما؛ لم يكن نفاة المجاز الذين سموا جميع الكلام حقيقة إذا كان قد بين به المراد بأنقص حالا ممن سمى ما هو من خيارالكلام وأحسنه وأتمه بيانا مجازا وجعله فرعا في اللغة لا أصل،ا ووضعا حادثا غير به الوضع المتقدم، وجعله تابعا لغيره لا متبوعا.
وقد ذكر نفاة المجاز حجة ضعيفة، وهي قولهم: وأيضا ما من صورة من الصور إلا ويمكن أن يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها، فاستعمال اللفظ المجازي فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة والبلاغة في وضعهم. وقد أجاب عن هذا بقوله: وجواب الثاني: أن الفائده في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقة قد يكون لاختصاصه بالخفة عن اللسان؛ أو لمساغته في وزن الكلام لفظا ونثرا، والمطابقة، والمجانسة، والسجع وقصد التعظيم، والعدول عن الحقيقي للتحقيق، إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة من الكلام. فيقال: هذه الحجة ضعيفة، والمجتمع بها يلزمه أن يسلم لها انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز، لكنه يوجب استعمال الحقيقة دون المجاز وهذا يناقض قوله: ليس في اللغه مجاز؛ بل المواضع التي سموها مجازا إذا ثبت استعمالها في اللغة فهي كلها حقيقة على هذا القول، والتعبير لبعض الحقائق يكون أحسن وأبلغ من بعض، ومراتب البيان والبلاغة متفاوتة، وكل ذلك مما يدل عليه اللفظ بطريقة الحقيقة، واللفظ لا يدل إلا مع قرينة، ومن ظن أن الحقيقة في مثل قوله: والصواب أن المراد بالقرية نفس الناس المشتركين الساكنين في ذلك المكان، فلفظ القرية هنا أريد به هؤلاء، كما في قوله تعالى:
وتمام هذا بالكلام على ما ذكره من المجاز في القرآن، فإنه قال: يعتذر عن قوله: فيقال: النهر كالقرية والميزاب ونحو ذلك، يراد به الحال ويراد به المحل، فإذا قيل: حفر النهر؛أريد به المحل، وإذا قيل: جرى النهر؛ أريد به الحال. وعن قوله: وأما تسميته استعارة فمعلوم أنهم لم يستعيروا ذلك اللفظ بعينه، بل ركبوا لفظ [اشتعل] مع [الرأس] تركيبا لم يتكلموا به، ولا أرادوا به غير هذا المعنى قط. ولهذا لا يجوز أن يقال في مثل هذا: لم يشتعل الرأس شيبًا، بل يقال: ليس اشتعال الرأس مثل اشتعال الحطب وإن أشبهه من بعض الوجوه. قال: وعن قوله: فيقال له: لا ريب أن الذل ليس له جناح مثل جناح الطائر، كما أنه ليس للطائر جناح مثل أجنحة الملائكة، ولا جناح الذل مثل جناح السفر، لكن جناح الإنسان جانبه، كما أن جناح الطير جانبه، والولد مأمور بأن يخفض جانبه لأبويه؛ ويكون ذلك على وجه الذل لهما لا على وجه الخفض الذي لا ذل معه، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أنه سبحانه كمل ذلك بقوله: قال: وقوله: فيقال: معلوم أن أوقات الحج أشهر معلومات، ليس المراد أن نفس الأفعال هي الزمان، ولا يفهم هذا أحد من اللفظ، ولكن قد يقال: في الكلام محذوف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات، ومن عادة العرب الحسنة في خطابها أنهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارا، كما أنهم يوردون الكلام بزيادة تكون مبالغة في تحقيق المعنى. فالأول كقوله: قال: وقوله: فيقال: قد قيل: إن الصلوات اسم لمعابد إليهود، يسمونها صلوات باسم ما يفعل فيها، كنظائره؛ وهو إنما استعمل لفظ الصلوات في المكان مقرونا بقوله: قال: وقوله: فنقول: لفظ الغائط في القرآن يستعمل في معناه اللغوي وهو: المكان المطمئن من الأرض؛ وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة لذلك وهو الغائط، كما يسمى خلاء لقصد قاضي الحاجة الموضع الخالي، ويسمى مرحاضا لأجل الرحض بالماء ونحو ذلك، والمجيء من الغائط اسم لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان في العادة إنما يجيء من الغائط إذا قضى حاجته، فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها عند الإطلاق التغوط فقد يسمون ما يخرج من الإنسان غائطا تسمية للحال باسم محله كما في قوله: جرى الميزاب. ومنه قول عائشة: مرن أزواجكم يغسلن عنهن أثر الغائط. وليس في قوله: وهذا كثير في الكلام، يذكر الملزوم ليفهم منه لازمه المدلول، وكلاهما دل عليه اللفظ، لكن أحدهما وسيلة إلى الآخر، كقول إحدى النسوة في حديث أم زرع: (زوجي عظيم الرماد طويل النجاد قريب البيت من الناد). فإن عظم الرماد يستلزم كثرة الطبخ المستلزم في عادتهم لكثرة الضيف؛ المستلزم للكرم. وطول النجاد يستلزم طول القامة، وقرب البيت من الناد يستلزم قصده بحجة الناد إلى بيته، والناد اسم للحال والمحل أيضا. ومنه قوله: وأصله من مناداة بعضهم لبعض، بخلاف النجاء فإنهم الذين يتناجون، قال الشعبي: إذا كثرت الحلقة فهي إما نداء وإما نجاء قال تعالى: فيقال: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن) فليس مفهوم اللفظ أنه شعاع الشمس والنار؛ فإن هذا ليس هو نور السموات والأرض، كما ظن بعض الغالطين أن هذا مدلول اللفظ، والنور يراد به المستنير المنير لغيره بهديه، فيدخل في هذا أنت الهادي لأهل السموات والأرض، وقد قال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه، وإذا كان كونه رب السموات والأرض وقيمها لا يناقض أن يكون قد جعل بعض عباده يرب بعضا من بعض الوجوه ويفهمه؛ فكذلك كونه واسم النور إذا تضمن صفته وفعله كان ذلك داخلا في مسمى النور؛ فإنه لما جعل القمر نورا كان متصفًا بالنور وكان منيرا على غيره، وهو مخلوق من مخلوقاته، والخالق أولى بصفة الكمال الذي لا نقص فيه من كل ما سواه. قال: وقوله: فيقال: العدوان مجاوزة الحد، لكن إن كان بطريق الظلم كان محرما، وإن كان بطريق القصاص كان عدلا مباحا، فلفظ العدوان في مثل هذا هو تعدي الحد الفاصل، لكن لما اعتدى صاحبه جاز الاعتداء عليه، والاعتداء الأول ظلم والثاني مباح، ولفظ عدل مباح، ولفظ الاعتداء هنا مقيد بما يبين أنه اعتداء على وجه القصاص بخلاف العدوان ابتداء فإنه ظلم، فإذا لم يقيد بالجزاء فهم منه الابتداء: إذ الأصل عدم ما يقابله. قال: وقوله: أما الاستهزاء والمكر بأن يظهر الإنسان الخير والمراد شر، فهذا إذا كان على وجه جحد الحق وظلم الخلق فهو ذنب محرم، وأما إذا كان جزاء على من فعل ذلك بمثل فعله كان عدلا حسنا، قال الله تعالى: وكذلك جزاء المعتدي بمثل فعله؛ فإن الجزاء من جنس العمل، وهذا من العدل الحسن، وهو مكر وكيد إذا كان يظهر له خلاف ما يبطن. قال: وهذه الألفاظ كان لها معنى خاص نقلت بعرف الاستعمال إلى معنى أعم من ذلك. وصار يفهم منها ذلك عند الإطلاق لغلبة الاستعمال، ولا يفهم منها خصوص معناها الأول كسائر الألفاظ التي نقلها أهل العرف إلى أعم من معناها، مثل لفظ الرقبة والرأس في قوله: والصحيح أنه من باب العبادة، ومعناه: أنت حر أن فعلت كذا، والحقيقة الحرفية والشرعية معلومة في اللغة. قال: إلى ما لا يحصى ذكره من المجازات ؟ وقالوا: ما يذكر من هذا الباب إما أن يكون النزاع في معناه أو المعنى متفق عليه، والنزاع في تسميته مجازا، وعلى التقديرين فلا حجة لك فيه؛ كقوله: وكثيرا ما يأتي المدعي إلى ألفاظ لها معان معروفة فيدعي استعمالها في غير تلك المعاني بلا حجة، ويقول: هذا مجاز، فهذا لا يقبل، ومن قسم الكلام إلى حقيقة ومجاز متفقون على أن الأصل في الكلام هو الحقيقة، وهذا يراد به شيئان: يراد به أنه إذا عرف معنى اللفظ وقيل: هذا الاستعمال مجاز قيل: بل الأصل الحقيقة. وإذا عرف أن للفظ مدلولان حقيقي ومجازي فالأصل أن يحمل على معناه الحقيقي؛ فيستدل تارة بالمعنى المعروف على دلالة اللفظ عليه، وتارة باللفظ المعروف دلالته على المعنى المدلول عليه. فإذا قيل في قوله تعالى: ثم الجوع والخوف إذا لبس البدن كان أعظم في إلالم؛ بخلاف القليل منه، فإذا قال: ولهذا كان تحرير هذا الباب هو من علم البيان الذي يعرف به الإنسان بعض قدر القرآن وليس في القرآن لفظ إلا مقرون بما يبين به المراد. ومن غلط في فهم القرآن فمن قصوره أو تقصيره؛ فإذا قال القائل: كما دل لفظ الباء في قوله:
قال ابن عقيل: في أسئلتهم، وقد تكلفوا غاية التكليف وتعسفوا غاية التعسيف في بيان أنه حقيقة. فمن ذلك قولهم: أن القرية هي مجتمع الناس؛ مأخوذ من قريت الماء في الحوض؛ وما قرأت الناقة في رحمها، فالضيافة مقرئ ومقر لاجتماع الأضياف عندهم، وسمي القرآن والقراءة لذلك لكونه مجموع كلام فكذلك حقيقة الاجتماع إنما هو للناس دون الجدران، فما أراد إلا مجمع الناس وهو في نفسه حقيقة القرية، يوضح ذلك قوله تعالى: قالوا: والأبنية والحمير إذا أراد الله نطقها أنطقها، وزمن النبوات وقت لخوارق العادات. ولو سالها لأجابته عن حإله معجزة له وكرامة، وقوله تعالى: قال ابن عقيل: فيقال: للقرية ما جمعت واجتمع فيها لا نفس المجتمع؛ فلهذا سمي القرء والأقراء لزمان الحيض أو زمان الطهر، والتصرية والمصراة والصراة اسم مجمع اللبن والماء؛ لا لنفس اللبن والماء المجتمع، والقاري الجامع للقري، والمقري الجامع للأضياف، فأما نفس الأضياف فلا، والقافلة لا تسمى عيرا أن لم تكن ذات بهائم مخصوصة؛ فإن المشاة والرجال لا تسمى عيرا، فلو كان اسما لمجرد القافلة لكان يقع على الرجال كما يقع على أرباب الدواب؛ فبطل ما قالوه. وقولهم: لو سأل لأجاب الجدار: فمثل ذلك لا يقع بحسب الاختيار، ولا يكون معتمدا على وقوعه إلا عند التحدي به، فإما أن يقع بالهاجس وعموم الأوقات فلا. وقوله: وقولهم: المراد نفس ذات العجل لما نسفه: فإذا نسف خرج عن أن يكون عجلا: بل العجل حقيقة الصورة المخصوصة التي خارت، وإلا برادة الذهب لا تصل إلا القلوب، وغاية ما تصل إلى الأجواف: فإما أن يسبقها الطبع فيحيلها إلى أن تصل إلى القلب فليس كذلك بل سحالة الذهب إذا حصلت في المعدة رسبت، بحيث لا ترتقي إلى غير محلها فضلا عن أن تصل إلى القلب؛ ولأن قول العرب: إشربوا: لا يرجع إلى الشرب إنما يرجع إلى الأسباب، وهو: الايساغ وذلك يرجع إلى الحب لا إلى الذوات التي هي الأجسام؛ ولهذا لا يقال: إشربوا في قلوبهم الماء إذ هو مشروب، فكيف يقال في العجل على أن إضافته نفسه إلى القلب إضافة له إلى محل الحب؟ وقد ورد في الخبر أنهم كانوا يقولون في سحالته إذا تناولوها :هذا أحب إلينا من موسى ومن إله موسى؛ لما نالهم من محبته في قلوبهم. قلت: أما ما ذكروه من القرية؛ فالقرية والنهر ونحو ذلك اسم للحال والمحل، فهو اسم يتناول المساكن وسكانها، ثم الحكم قد يعود إلى الساكن؛ وقد يعود إلى المساكن؛ وقد يعود إليهما كاسم الإنسان؛ فإنه اسم للروح والجسد؛ وقد يعود الحكم على أحدهما، وكذلك الكلام اسم للفظ والمعنى، وقد يعود الحكم إلى أحدهما. وأما الاشتقاق فهذا الموضع غلط فيه طائفة من العلماء، لم يفرقوا بين قرأ بالهمزة وقرى يقري بالياء؛ فإن الذي بمعنى الجمع هو قرى يقري بلا همزة ومنه القرية والقراءة ونحو ذلك، ومنه قريت الضيف أقريه أي: جمعته وضممته إليك، وقريت الماء في الحوض جمعته، وتقريت المياه: تتبعتها، وقروت البلاد وقريتها واستقريتها إذا تتبعتها تخرج من بلد إلى بلد، ومنه الاستقراء؛ وهو: تتبع الشيء أجمعه وهذا غير قولك: استقرأته القرآن؛ فإن ذاك من المهموز، فالقرية هي المكان الذي يجتمع فيه الناس، والحكم يعود إلى هذا تارة وإلى هذا أخرى. وأما قرأ بالهمز فمعناه الاظهار والبيان، والقرء والقراءة من هذا الباب، ومنه قولهم: ما قرأت الناقة سلا جزور قط؛ أي: ما أظهرته وأخرجته من رحمها، والقاري: هو الذي يظهر القرآن ويخرجه، قال تعالى: ثم الطهر يدخل في اسم القرء تبعًا كما يدخل الليل في اسم اليوم، قال النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، والطهر الذي يتعقبه حيض هو قرء فالقرء اسم للجميع. وأما الطهر المجرد فلا يسمى قرءًا؛ ولهذا إذا طلقت في أثناء حيضة لم تعتد بذلك قرءًا ؛ لأن عليها أن تعتد بثلاثة قروء، وإذا طلقت في أثناء طهركان القرء الحيضة مع ما تقدمها من الطهر؛ ولهذا كان أكابر الصحابة على أن الأقراء الحيض، كعمر وعثمان وعلي وأبي موسى وغيرهم؛ لأنها مأمورة بتربص ثلاثة قروء؛ فلو كان القرء هو الطهر لكانت العدة قرأين وبعض الثالث، فإن النزاع من الطائفتين في الحيضة الثالثة؛ فإن أكابر الصحابة ومن وافقهم يقولون: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وصغار الصحابة إذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد حلت، فقد ثبت بالنص والإجماع أن السنة أن يطلقها طاهرًا من غير جماع وقد مضى بعض الطهر، والله أمر أن يطلق لاستقبال العدة لا في أثناء العدة، وقوله: وأما قولك: وعلى كل قول فله نظائر فالقول في تسميته مجازا كالقول في نظائره. والأظهر أن المراد به أن هذا القول الذي ذكرناه عن عيسى ابن مريم قول الحق إلا أنه ابن عبد الله يدخل في هذا. ومن قال: المراد بالحق الله؛ والمراد قول الله: فهو وأن كان معنى صحيحا فعادة القرآن إذا أضيف القول إلى الله أن يقال: قول الله، لا يقال: قول الحق إلا إذا كان المراد القول الحق، كما في قوله: ثم مثل هذا إذا أضيف فيه الموصوف إلى الصفة، كقوله: وبالجملة فنظائر هذا في القرآن وكلام العرب كثير، وليس في هذا حجة لمن سمى ذلك مجازًا إلا كحجته في نظائره، فيرجع في ذلك إلى الأصل. قال ابن عقيل: ومن أدلتنا قوله تعالى: قلت: ما ذكره من أن السورة القصيرة لا إعجاز فيها مما ينازعه أكثر العلماء، ويقولون: بل السورة معجزة، بل ونازعه بعض الاصحاب في الآية والآيتين، قال أبو بكر ابن العماد - شيخ جدي أبي البركات -: قوله إنما جاز للجنب قراءة اليسير من القرآن لأنه لا إعجاز فيه: ما أراه صحيحًا؛ لأن الكل محترم، وإنما ساغ للجنب قراءة بعض الآية توسعة على المكلف، ونظرا في تحصيل المثوبة والحرج مع قيام الحرمة، كما سوغ له الصلاة مع يسير الدم مع نجاسته. قلت: وأما قوله: أن القرآن نزل بلغة العرب: فحق، بل بلسان قريش كما قال تعالى: وأيضا فقول القائل: إن في لغة العرب مجازا غير ما يوجد نظيره في القرآن؛ فإن كلام المخلوقين فيه من المبالغة والمجازفة من المدح والهجو والمراثي وغير ذلك ما يصأن عنه كلام الحكيم؛ فضلا عن كلام الله: فإذا كان المسمى لا يسمي مجازا إلا ما كان كذلك لم يلزمه أن يسمي ما في القرآن مجازا، وهذا لأن تسمية بعض الكلام مجازا إنما هو أمر اصطلاحي، ليس أمرا شرعيا ولا لغويا ولا عقليا. ولهذا كان بعضهم يسمي بالمجاز ما استعمل فيما هو مباين لمسماه، وما استعمل بعض مسماه لا يسميه مجازا، فلا يسمون استعمال العام في بعض معناه مجازًا، ولا الأمر إذا أريد به الندب مجازا، وهو اصطلاح أكثر الفقهاء. وقد لا يقولون: إن ذلك استعمال في غير ما وضع له، بناء على أن بعض الجملة لا يسمى غيرا عند الإطلاق، فلا يقال: الواحد من العشرة أنه غيرها، ولا ليد الإنسان أنها غيره ولأن المجاز عندهم ما احتيج إلى القرينة في إثبات المراد إلا في دفع ما لم يرد، والقرينة في الأمر تخرج بعض ما دل عليه اللفظ وتبقى الباقي مدلولا عليه اللفظ، بخلاف القرينة في الأسد فإنها تبين أن المراد لا يدخل في لفظ الأسد عند الإطلاق. وإذا كان اصطلاح أكثر الفقهاء التفريق بين الحقيقة والمجاز. وآخرون اصطلحوا على أنه متى لم يرد باللفظ جميع معناه فهو مجاز عندهم ثم هؤلاء أكثرهم يفرقون بين القرينة المنفصلة أو المستقلة؛ وبين ما تأصلت باللفظ؛ أو كانت من لفظه؛ أو لم تستقل؛ فلم يجعلوا ذلك مجازًا لئلا يلزم أن يكون عامة الكلام مجازًا، حتى يكون قوله: لا إله إلا الله: مجازًا !مع العلم بأن المشركين لم يكونوا ينازعون في أن الله إله حق، وإنما كانوا يجعلون معه إلهة أخرى، فكان النزاع بين الرسول وبينهم في نفي الألهية عما سوى الله حقيقة، إذ لم يستعمل في غير ما وضع له، وأن الموضوع الأصل هو النفي وهو نفي الإله مطلقا، فهذا المعنى لم يعتقده أحد من العرب، بل ولا لهم قصد في التعبير عنه، ولا وضعوا له لفظًا بالقصد الأول، إذ كان التعبير هو عما يتصور من المعاني، وهذا المعنى لم يتصوروه إلا نافين له، يتصوروه مثبتين له ونفي النفي إثبات. فمن قال: أن هذا اللفظ قصدوا به في لغتهم كان أن يبعث الرسول لنفي كل إله، وأن هذا هو موضوع اللفظ الذي قصدوه به أولا، وقولهم: لا إله إلا الله: استعمال لذلك اللفظ في غير المعنى الذي كان موضوع اللفظ عندهم: فكذبه ظاهر عليهم في حال الشرك، فكيف في حال الإيمان ؟. ولا ريب أن جميع التخصيصات المتصلة كالصفة؛ والشرط؛ والغاية؛ والبدل؛ والاستثناء: هو بهذه المنزلة لكن أكثر الألفاظ قد استعملوها تارة مجردة عن هذه التخصيصات وتارة مقرونة بها، بخلاف قول: لا إله إلا الله؛ فإنهم لم يعرفوا قط عنهم أنهم استعملوها مجردة عن الاستثناء، إذ كان هذا المعنى باطلا عندهم، فمن جعل هذا حقيقة في لغتهم ظهر كذبه عليهم، وإن فرق بين استثناء واستثناء تناقض وخالف الإجماع؛ وذلك لأنه بني على أصل فاسد متناقض، والقول المتناقض إذا طرده صاحبه وألزم صاحبه لوازمه ظهر من فساده وقبحه ما لم يكن ظاهرًا قبل ذلك. وأن لم يطرده تناقض وظهر فساده، فيلزم فساده على التقديرين. ولهذا لا يوجد للقائلين بالمجاز قول ألبتة، بل كل أقوإلهم متناقضة، وحدودهم والعلامات التي ذكروها فاسدة؛ إذ كان أصل قولهم باطلا، فابتدعوا في اللغة تقسيما وتعبيرًا لا حقيقة له في الخارج، بل هو باطل، فلا يمكن أن يتصور تصورا مطابقا ولا يعبر عنه بعبارة سديدة؛ بخلاف المعنى المستقيم فإنه يعبر عنه بالقول السديد، كما قال تعالى: والمقصود هنا: أن الذين يقولون: ليس في القرآن مجاز أرادوا بذلك أن قوله: فهذا الكلام لا يقوله من يتصور ما يقول، وابن جني له فضيلة وذكاء؛ وغوص على المعاني الدقيقة في سر الصناعة والخصائص وإعراب القرآن وغير ذلك؛ فهذا الكلام أن كان لم يقله فهو أشبه بفضيلته وإذا قإله فالفاضل قد يقول ما لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس؛ وذلك أن الفعل إنما يدل على مسمى المصدر، وهو الحقيقة المطلقة من غير أن يكون مقيدًا بقيد العموم، بل ولا بقيد آخر. فإذا قيل: خرج زيد؛ وقام بكر؛ ونحو ذلك: فالفعل دل على أنه وجد منه مسمى خروج؛ ومسمى قيام؛ من غير أن يدل اللفظ على نوع ذلك الخروج والقيام، ولا على قدره، بل هو صالح لذلك على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، كقوله: وأما أن هذا اللفظ يقتضي عموم كل ما يسمى خروجا في الوجود لا على سبيل الجمع فهذا لا يقوله القائل إلا إذا فسد تصوره، وكان إلى الحيوان أقرب, والظن بابن جني أنه لا يقول هذا. ثم هذا المعنى موجود في سائر اللغات فهل يقول عاقل: إن أهل اللغات جميعهم الذين يتكلمون بالجمل الفعلية التي لا بد منها في كل أمة إنما وضعوا تلك الجملة الفعلية على جميع أنواع ذلك الفعل الموجود في العالم، وأن استعمال ذلك في بعض الأفراد عدول باللفظ عما وضع له ؟ ولكن هذا مما يدل على فساد أصل القول بالمجاز إذا أفضى إلى أن يقال: في الوجود مثل هذا الهذيان، ويجعل ذلك مسألة نزاع توضع في أصول الفقه. فمن قال من نفاة المجاز في القرآن: أنا لا نسمي ما كان في القرآن ونحوه من كلام العرب مجازًا، وإنما نسمي مجازًا ما خرج عن ميزان العدل، مثل ما يوجد في كلام الشعراء من المبالغة في المدح والهجو والمراثي والحماسة: فمعلوم أنه إن كان الفرق بين الحقيقة والمجاز اصطلاحا صحيحًا فهذا الاصطلاح أولى بالقبول ممن يجعل أكثر الكلام مجازًا، بل وممن يجعل التخصيص المتصل كله مجازا؛ فيجعل من المجاز قوله: فمن جعل هذا كله مجازًا وأن العرب تستعمل هذا كله وما أشبهه في غير ما وضع اللفظ له أولا: فقوله معلوم الفساد بالضرورة، ولزمه أن يكون أكثر الكلام مجازًا؛ إذ كان هذا يلزمه في كل لفظ مطلق قيد بقيد، والكلام جملتان: إسمية وفعلية والإسمية أصلها المبتدأ والخبر؛ فيلزم إذا وصف المبتدأ والخبر أو استثني منه أو قيد بحال كان مجازًا. ويلزمه إذا دخل عليه كان وأخواتها وإن وأخواتها وظننت وأخواتها فغيرت معناه وإعرابه: أن يصير مجازا؛ فإن دخول القيد عليه تارة يكون في أول الكلام؛ وتارة في وسطه؛ وتارة في آخره لا سيما باب ظننت؛ فإنهم يقولون: زيد منطلق وزيدًا منطلقا ظننت؛ ولهذا عند التقديم يجب الإعمال وفي التوسط يجوز الإلغاء؛ وفي التأخر يحسن مع جواز الإعمال؛ فإنه إذا قدم المفعول ضعف العمل؛ ولهذا يقوونه بدخول حرف الجر؛ كما يقوونه في اسم الفاعل لكونه أضعف من الفعل كقوله: ويلزمه في الجملة الفعلية إذا قيدت بمصدر موصوف أو معدود أو نوع من المصدر أن يكون مجازا، كقوله: وكذلك ظرف المكان والزمان، وكذلك سائر ما يقيد به الفعل من حروف الجر، كقوله: ومما ينبغى أن يعرف أن ابن عقيل مع مبالغته هنا في الرد على من يقول: ليس في القرآن مجاز، فهو في موضع آخر ينصر أنه ليس في اللغة مجاز، لا في القرآن ولا غيره! وذكر ذلك في مناظرة جرت له مع بعض أصحابه الحنبليين الذين قالوا بالمجاز، فقال في فنونه: جرت مسألة هل في اللغة مجاز؟ فاستدل حنبلي أن فيها مجازًا بأنا وجدنا أن من الأسماء ما يحصل نفيه، وهو تسمية الرجل المقدام أسدًا والعالم والكريم الواسع العطاء والجود بحرًا فنقول فيه: ليس ببحر ولا بأسد، ولا يحسن أن نقول في السبع المخصوص والبحر ليس بأ سد ولا بحر، فعلم أن الذي حسن نفي الاسم عنه أنه مستعار كما نقول في المستعير لمال غيره ليس بمالك له، ولا يحسن أن نقول في المالك ليس بمالك له. قال: اعترض عليه معترض أصولي حنبلي فقال: الذي عولت عليه لا أسلمه، ولا تعويل على الصورة بل على المخصصة؛ فإن قولنا: حيوان:يشمل السبع، والإنسان، فإذا قلنا سبع وأسد كان هذا لما فيه من الإقدام والهواش والتفخم للصيال، وذلك موجود في صورة الإنسان وصورة السبع، والإتفاق واقع في الحقيقة؛ كسواد الحبر وسواد الفار جميعًا لا يختلفان في اسم السواد بالمعنى، وهي الحقيقة التي هي هبة تجمع البصر اتساع الحدقة، فكذلك اتساع الجود والعلم واتساع الماء جميعًا يجمعه الاتساع، فيسمى كل واحد منهما بحرًا للمعنى الذي جمعهما وهو حقيقة الاتساع؛ ولأنه لا يجوز أن يدعي الاستعارة لأحدهما إلا إذا ثبت سبق التسمية لأحدهما، ولاسيما على أصل من يقول: أن الكلام قديم؛ والقديم لا يسبق بعضه بعضًا؛ فإن السابق والمسبوق من صفات بعضه الحادث من الزمان. قلت: فقد جعل هذا اللفظ متواطئًا دالا على القدر المشترك كسائر الأسماء المتواطئة، ولكنه يختص في كل موضع بقدر متميز لما امتاز به من القرينة، كما في ما مثله به من السواد، وهذا بعينه يرد عليه فيما احتج به المجاز. قال: ومن أدلة المجاز ما زعم المستدلون له من أجود الاستدلال على النفاة، وهو قوله تعالى: فإن قيل: كان من لغة العرب تسمية المصلى صلاة، وقد ورد في التفسير: فيقال: هذا دعوى عن الوضع؛ إذ لا يعلم أن الصلاة في الأصل إلا الدعاء، وزيد في الشرع أو نقل إلى الأفعال المخصوصة، فأما الأبنية فلا يعلم ذلك من نقل عن العرب، وأن سميت صلوات فإنما هو استعارة؛ لأنها مواضع الصلوات. ولو خلق الله في الجدار إرادة لم يكن بها مريدًا، كما لو خلق فيه كلاما لم يكن به متكلما. وأما قوله:إن كلمة الله المراد بها عيسى نفسه، فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب، كقولهم هذا درهم ضرب الأمير ومنه قوله: ومعلوم أن المسيح نفسه ليس هو الكلام ( قالت أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى امرا فإنما يقول له كن فيكون)، فبين لما تعجبت من الولد أنه سبحانه يخلق ما يشاء؛ إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، فدل ذلك على أن هذا الولد مما يخلقه الله بقوله: وكذلك قوله: وكذلك قوله: وكذلك ما يعرف بالام لام العهد ينصرف في كل موضع إلى ما يعرفه المخاطب،إما بعرف متقدم؛ وإما باللفظ المتقدم، وإن كان غير هذا المراد ليس هو ذاك، لكن بينهما قدر مشترك وقدر فارق، كقوله تعالى: وكذلك اسم الإشارة؛ كقوله هذا وهؤلاء وأولئك إنما يدل في كل موضع على المشار إليه هناك؛ فلابد من دلالة حالية أولفظية تبين أن المشار إليه غير لفظ الإشارة، فتلك الدلالة لا يحصل المقصود إلا بها وبلفظ الإشارة، كما أن لام التعريف لا يحصل المقصود إلا بها وبالمعهود، ومثل هذه الدلالة لا يقال: أنها مجاز، وإلا لزم أن تكون دلالة أسماء الإشارة بل والضمائر ولام العهد وغير ذلك مجازًا، وهذا لا يقوله عاقل، وإن قاله جاهل على أنه لم يعرف دلالة الألفاظ، وظن أن الحقائق تدل بدون هذه الأمور التى لابد منها في دلالة اللفظ، بل لا يدل شيء من الألفاظ إلا مقرونا بغيره من الألفاظ، وبحال المتكلم الذي يعرف عادته بمثل ذلك الكلام، وإلا فنفس استماع بدون المعرفة للمتكلم وعادته لا يدل على شيء؛ إذا كانت دلالتها دلالة قصدية إرادية تدل على ما أراد المتكلم أن يدل بها عليه لا تدل بذاتها. فلابد أن تعرف ما يجب أن يريده المتكلم بها؛ ولهذا لا يعلم بالسمع؛ بل بالعقل مع السمع. ولهذا كانت دلالة الألفاظ على معانيها سمعية عقلية تسمى الفقه؛ ولهذا يقال لمن عرفها: هو يفقه، ولمن لم يعرفها لا يفقه قال تعالى: ولهذا كان المقصود من أصول الفقه: أن يفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة. تم بحمد الله وتوفيقه لا إله إلا هو، وصلى الله على نبيه وحبيبه وأفضل خلقه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
|